بُردَقانة | رواية

«بُرْدَقانة» (2014)

 

تجري أحداث رواية «بُرْدَقانة» الصادرة عن «دار الآداب» (2014)، لكاتبها الفلسطينيّ إياد برغوثي، في مدينة عكّا عام 1945، وقد صدرت أخيرًا بطبعة جديدة ومنقّحة بالتزامن مع انعقاد «كأس العالَم فيفا قطر 2022».

تحكي الرواية قصّة الكابتن فايز غندور، مدرّب فريق كرة القدم المحلّيّ، الّذي يعيش أجمل أيّام حياته بعد تعيينه مدرّبًا للـ «المنتخب العربيّ الفلسطينيّ» الجديد، وهو يوشك على الزواج من خطيبته ثريّا، المعلّمة في مدرسة البنات. لكنّ مطالبة جريدة معروفة بمنع تعيينه ونشر صورة لوالده الّذي كان قُتِلَ خلال الثورة الفلسطينيّة (1936)، وقد عُلِّقَت على جثّته لافتة كُتِبَ عليها: "عميل"، توشك على أن تقلب حياته.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.  

 


الأربعاء، 18 تمّوز (يوليو) 1945، عكّا

بعدما طلب من جلال جرّار أن يستغلّ الثغرة في دفاع «الروضة» شبه المنهار، وأن يهجم نحو وسط الملعب قرب منطقة الجزاء، رفع فايز غندور يده اليمنى عند حاجبيه ليظلّل عينيه من الشمس، وجاب بنظره سريعًا بين الجمهور المحتشد على حافّة السور، على مطلعَي الدرج المؤدّيين إلى البرجين في الأعلى، وبحث عنها في الوجوه الملاحقة لنقلات الكرة السريعة. لم تكن هناك، ولم يستغرب. 

اجتاز جلال منطقة الجزاء. راوغ لاعب الدفاع الّذي انزلق نحوه من جهة اليمين، رفع الكرة فوقه وتجاوزه بخفّة. لكنّه عندما وصل قرب حارس المرمى الّذي تلقّى حتّى الآن 4 أهداف هزّت شباك مرماه ومعنويّاته، وقف مكانه يدوس على الكرة بقدمه الأماميّة، محرّكًا كتفيه كأنّه ملاكم في بداية المواجهة. عندما قرّر أخيرًا أن يتجاوزه يسارًا، ارتمى الحارس بين قدميه متشبّثًا بالكرة.

لم يكتف جلال بهذا، بل ابتسم للظهير الأيسر في فريق «الروضة» وتلاقت أكفّاهما في الهواء كأنّهما يحتفلان بهدف خامس لفريقهما المرتاح لانتصاره. بل وعندما سأله فايز عن سبب تخاذله، قال: "حرام، ما إحنا غالبين 4 صفر... بيبقوا أولاد بلد". "يحرّم جلدك ع القضبان... تعال اطلع عالاحتياط ولا"، وأشار للحكم ملوّحًا بعصبيّة بسبّابتيه تدوران حول بعضهما. "مدني... جاهز؟" سأل محمّد المدني وربّت على كتفه. أمّا جلال، فابتعد كطفل طويل يحرّك كتفه اليمنى نحو أذنه: "بدّيش... بدّيش"، وهبطت شفتيه ليختنق صوته: "اطلع بقولّك... قال حرام قال، صاير مفتي وأنا مش عارف!".

أمسك فايز بكتف خليل بياعة عندما همّ ليلحق بجلال الّذي ذهب صوب التلّة المطلّة على الملعب، متجاهلًا مدرّبه والفريق. "اتركه..."، قرّب إليه محمّد المدني قبل أن تطأ قدمه أرض المعركة: "ما ترحم!"، ونظر صوب نصف ملعب فريقه المذهول من الانسحاب الكامل لهدّافه: "نمتو؟ أجبلكو فرشات؟! يلا تحرّكوا!".

شكر فايز ربّه لأنّ ثريّا لم تأتِ لتشاهد مباراة اليوم أيضًا، فقد وفّر على نفسه عناء شرح طويل ومتعب. كانت ربّما ستقول إنّ تصرّف جلال ينمّ عن طبع حنون وحسّاس وقنوع، إنّه يشعر بأسى الآخرين ويعفو عند المقدرة، وبعد ذلك ستصمت وتستمع لتبريراته بابتسامة تربويّة غير مقتنعة، كأنّها فقدت القدرة على الكلام، أو الخصام.

انزعج فايز من الخطر الّذي هدّد مرمى فريقه فجأة بعد تصويبة غير سيّئة بالمطلق لمهاجم «الروضة» رقم 7، كادت تقتحم المرمى لولا ردّ الفعل السريع للحارس محمّد إبراهيم الّذي قفز نحو أعلى الزاوية وأبعدها. صفّق فايز: "عظيم حمّودة، عظيم... أبو رمحين خليك هون، شو عم تتمشّى على الغربي بنصّ الملعب؟".

أحاط الحارس الكرة بيديه وقرّبها صوب صدره، ثمّ دحرجها نحو أحمد النجمي، الظهير الأيسر، الّذي تسارعت خطواته حتّى وصل خطّ منتصف الملعب فمرّرها لمحمّد أبو رمحين، الّذي أعادها للنجمي بعدما اخترق نحو وسط الملعب، فاستلمها وحوّلها لقلب الهجوم الجديد محمّد المدني، الّذي انتظر الكرة على الزاوية اليسرى لمنطقة الجزاء فأوقفها، ركلها ركلة خفيفة كأنّه يهمّ للهجوم نحو المرمى، لكنّه فاجأ الحارس بقذيفة صاروخيّة جمّدته مكانه. خمسة صفر.

"حلوة مدني... حلوة... يلا كمان واحد"، قال فايز لمدني الّذي ركض رفاقه خلفه ولوّح لأبيه، رفع أبوه قبضته في الهواء وزغردت أمّه من وراء نقابها. ضحك فايز لسماعه الزغرودة المبلّلة بالانفعال، وحيّا الأب بتصفيقتين وابتسامة. جاب فايز بنظره سريعًا بين الجمهور المحتشد على التلّة المطلّة على الملعب المقابلة للسور. لم تكن هناك، ولم يستغرب.    

كان يريدها أن تشعر بالفرحة معه، معهم، مع الأمّ، على الأقل. لكن كيف ستشاهد هذه اللعبة الودّيّة المحليّة، محسومة النتيحة سلفًا، مع نادي «الروضة» العكّي من الدرجة الثانية، الّذي انضمّ للاتّحاد الرياضيّ هذا الموسم فقط، بينما لم تلبّ دعوته للعبة فريقه «النادي القوميّ الرياضيّ» في عكّا، قبل ثلاثة أسابيع، أمام نادي «النهضة» من الناصرة في ملعب «الإنـﭽـليز». يومها انتصر 3-1 وحصل على «بطولة الجليل» لعام 1945. كان يريدها أن تراه وهو يستلم من الهبّاب الكأس الفضّيّ الضخم الّذي تبرّع فيه «بنك الأمّة».

تجاهل المدني صفّارة الحكم الثلاثيّة الّتي أعلنت نهاية المباراة، وأكمل هجومه الأخير مصوّبًا الكرة من بعيد نحو المرمى الّذي ابتعد عنه حارسه قليلًا، فهزّت الكرة الشباك. قفز المدني فرحًا وركض نحو مقعد احتياط فريقه. زغردت أمّه فنظر فايز إليها ملوّحًا بسبّابته يمينًا ويسارًا: "لا، لا". دخل رجب أبو دقنين، مدرب فريق «الروضة»، أرض الملعب بخطوات سريعة نحو الحكم المحاط بلاعبي رجب: "مش محسوب... مش محسوب". رفع الحكم له كفّه ليوقفه مطمئنًا: "الـﭽـول أكيد مش محسوب".

لم يسمح فايز لنفسه أن ينفجر أمام الناس. استاء جدًّا من أنّ تنتهي مباراة فاز فريقه فيها بنتيجة خمسة صفر بهذا الشعور السيّء. مشى صوب رجب وسلّم عليه: "يعطيكو ألف عافية". هكذا يجب أن يتصرّف المدرّب والفريق بعد كلّ مباراة: "يعافيك... مبروك هاي المرّة"، أجابه رجب ببرود وبطرف الكلام، وفي نظرته المنسحبة لمعة خبث صبور.

لم يكن فايز غندور ورجب أبو دقنين صديقين مقرّبين في يوم من الأيام، حتّى عندما لعبا معًا في صفوف «نادي أسامة بن زيد». لم يكن سبب التوتّر بينهما، في البداية، فارق السن ما بينهما، إذ يكبره رجب بثلاث سنوات، بل ذلك اللوم المتراكم بعد كلّ هزيمة، بعد كلّ هدف. كان رجب لاعب خطّ وسط مهاريّ يجيد صناعة الفرص، أمّا فايز فكان قلب دفاع. كان رجب يبرّر الخسارة عند تغيير الملابس: "دفاعنا تعبان"، ويردّ عليه فايز: "عنّا هجوم بيتفركش ببيضاته".

 انتبه فايز للمدني وبعض اللاعبين الّذين كانوا يناقشون الحكم، بينما يردّ عليهم بعض لاعبي «الروضة»: "غشّاشين... غشّاشين". صرخ فايز بلاعبيه: "مدني، تفاحة، مملوك، عجينة، جمّعو الفريق وتعالو وراي... يلّا"، واعتذر للحكم.

صعد فايز على درج السور وتبعه لاعبو فريقه المنهكين اللاهثين. كان الحشد ينزل باتّجاه البوّابة الشرقيّة القريبة وشارع صلاح الدين، ويوسّع الطريق للفريق مهنّئًا، فيردّ فايز على جمهوره بابتسامة طفيفة تخفي غضبه كستارة شفّافة. رغم الفوز الكبير.

اعتلى فايز حافّة السور. تجمّع اللاعبون حوله. انتظر حتّى انسحب آخر رجل من عند البرجين القريبين المطلّين على ملعب «الفرقة». قال لهم إنّ مَن عمّر هذا السور أتقن عمله، ولهذا صمد أمام الغزو وهزم نابليون، وإنّ من شيّد «جامع الباشا» هذا معماريّ مبدع، ومن خطّ الآيات على جدرانه خطّاط مبهر، وإنّ من يذوق الحلوى عند سعد الدين يبتهج لأنّ صانعها صاحب ذوق يهتّم بكل حبّة بقلاوة، وإنّ من يسير في شوارع عكّا يُعْجَبُ بنظافتها لأنّ التنتون الزبّال رئيس كنّاسيها يجيد الكناسة ولا يسمح للوسخ أن يلطّخ وجه المدينة. ثمّ قال بهدوء غريب عنه، كأنّه الشيخ عبد الله الجزّار: "إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه". أطرقوا برؤوسهم مبتسمين ورموا ضحكاتهم أرضًا: "مش معقولين كنتو اليوم، زي اللّي بتلعبو بحارة الشيخ عبد الله، بدي إيّاكو أبطال، وإنتو أبطال، بس هُبُل!". علت ضحكاتهم واستمتعوا بالبهدلة.

تأمّلهم من عُلٍ، واحدًا واحدًا. يعرف جيّدًا أنّ لا غبار على مهارتهم الكرويّة، فقد انتقاهم بنفسه من الأزقّة وساحات الحارات وفريق المدرسة واتّحاد الطلبة وفرق المصانع، كان شرطه لإدارة «نادي أسامة بن زيد»، عندما طلبت منه أن يدرّب فريقها الكرويّ لينضمّ إلى «الاتّحاد الفلسطينيّ» الذي أعيد تشكيله من جديد السنة الماضية، بعد أن وضعت الحرب الكونيّة أوزارها، هو أن يؤسّس لنادٍ جديد، من الصفر، ويعطيه اسمًا جديدًا ونهجًا مختلفًا احترافيًّا بلا تهاون، وألّا يتدخّل أحد في قراراته المهنيّة. يتأمّلهم واحدًا واحدًا، لقد أثبتوا أنفسهم هذا الموسم بجدارة عندما لعبوا مع فرق الجليل. لكنّ ما يقلقه هو الآتي، لقاءهم مع أبطال مناطق فلسطين الأخرى. عليهم أن يتجاوزوا سور المحلّيّة.

"جلال... تعال"، نادى فايز بشكل مفاجئ، فأدار كلّ اللاعبين رؤوسهم نحو البرج القريب أعلى مطلع درج السور، حيث اتّجهت عينا مدرّبهم. "تعال... شايفك من ورا السور، أنا ما بعلم بالغيب، شفتك وإنت جاي من بعيد، لاعب الفوتبول لازم يشوف كل شي، تعال".

صرف فايز الشباب. بارك لهم الفوز. قال لهم إنّ التدريب القريب بعد غد، وهدّد المتأخّرين عن موعد التدريب بعشر دورات ركض إضافيّة. قفز عن حافّة السور وانتظر جلال ليأتي إليه. حاول جلال في البداية أن ينطلق بخطاب تبرير، إلا أنّ فايز أسكته بحزم، "اسمعني هلّأ".

نزلا معًا نحو الشارع. أبلغه فايز بأنّه يسمح له بالعودة إلى التدريب بعد غد، لكنّ العقاب على سلوكه الصبيانيّ غير الاحترافيّ اليوم هو جلوسه على مقعد الاحتياط في اللعبة القادمة. شرح له فايز أنّ الهدف ليس ملكًا فرديًّا للمهاجم حتّى يتحكّم به. إنّه نتاج تعب الجماعة. إنّه المحطّة الأخيرة لمشوار التمريرات والمراوغات واللهاث، إنّه ملك للفريق ولا يملك، هو أو غيره، الحقّ لوضع اعتباراته الشخصيّة حاجزًا أمام تحقيق أيّ هدف. الفريق يلعب، ويهاجم ويدافع ويصدّ ويمرّر، أصلًا، كي يسجّل أقصى عدد من الأهداف، وليتلقّ أقلّ ما يمكن منها. هذه هي اللعبة. ثمّ، الخصم هو خصم: "حتّى لو كان أبوك حارس المرمى، اضرب بأقوى وأذكى ما عندك، كيف فرحت مع خصومنا اليوم لأنّك ما فوّتِّش ﭼـول؟! فكّرت بهادا الإشي؟ بعرف أنّه صاحبك، بهمنيش... بدّي منّك ﭼـوال، وبدّي اسمك يسبقك لكلّ الملاعب".

"تمام"، قال جلال، لكنّه لم يتمالك نفسه وهرب منه السؤال، "مع مين راح تكون اللعبة الجاي؟".

"ما تستعجل، كل شي بوقته منيح"، قال فايز مسرعًا في مشيته، مبتعدًا من دون توديعه نحو الشمال، خارج الأسوار القديمة، حاضنًا ’بردقانة‘ تمَوضَعت في مكانها المعتاد بين مرفقه وصدره.

 


 

إياد برغوثي

 

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ، وُلِدَ عام 1980، ودَرَسَ «علم الاجتماع وعلوم الإنسان» في «جامعة تل أبيب»، وعَمِلَ مديرًا لـ «جمعيّة الثقافة العربيّة في حيفا»، ومحرّرًا سابقًا لصحيفة «فصل المقال» الأسبوعيّة.